قتلته في جنح الظلام وأخفت جثته عن رفاقه
قالت له: "نوض يعني قفْ "يا حلوف بن حلوف" وقضت عليه بـ"الشاقور*"
صنعت المجاهدة الفذة "بوذن أم السعد" الكثير من التميّز خلال الثورة التحريرية المباركة، فقد كانت إلى جانب المجاهدين، الذين كانت تدعمهم بالطعام والدعم المعنوي من مقر سكناها في قرية "أقرادو "التابعة لمنطقة "مروانة بباتنة" بالشرق الجزائري .
ولم تقتصر جهود "بوذن أم السعد" على تدعيم الثورة، بل ساهمت في صنع ملحمة خلّدها التاريخ، وتحوّلت إلى بطلة بامتياز، حين فتكت بضابط فرنسي وصلت به الوقاحة إلى تجاوز عتبة المنزل في ساعة متأخرة في إحدى ليالي* صائفة* 1961، وأعطت له درسا في الشجاعة والصمود والدفاع عن الشرف، حيث أردته قتيلا بضربات مركزة بالساطور، وهي العملية التي منحت انتصارا معنويا لسكان المنطقة الذين يذكرون خالتي* أم السعد* (من مواليد* 1929*) بكثير من الاعتزاز، وهي* ابنة الـ* 32* سنة في* عراك وجها لوجه كان مفتوحا على كل الاحتمالات،* فالضابط* يملك المسدس والرشاش وخراطيش برتبة ملازم أول تخرج من المدرسة العسكرية الفرنسية، والبطلة الأوراسية لا تعرف في قاموسها سوى الصمود وعدم العودة إلى الوراء.
وتقول المجاهدة الفذة : "زوجي" سقط شهيدا بعد أن أعدمته السلطات الاستعمارية الفرنسية في جبل "بوغيول "عام 1957، وترك لي* 3* أبناء في عمر الزهور، حيث ألقي* عليه القبض في* سوق مروانة* يوم الجمعة* 8* رمضان، وتم وضع أبو زوجي* تحت الإقامة الجبرية، لأنهما من عائلة مجاهدة معادية للاستعمار، وكانت المتاعب تلاحقني يوما بعد يوم ويكبر الحقد في قلبي لكل شيء له علاقة بالإستعمار الفرنسي وأذنابه،وأكدت خالتي أم السعد أن منطقة "أقرادو" التي كانت تقيم فيها رفقة عائلتها تقع قرب جبل بوغيول،* وكانت نقطة اتصال بين المجاهدين في الجبل ومروانة، ولذلك عند خروج الجيش الفرنسي أثناء الحصار والتطويق نخرج نحو الجبل بعد أن نخفي المأكولات بمختلف أنواعها، وكم تشتد همجية المستعمر إذا وصلته أخبار عن مجيء مجاهدين للمنطقة، وكم من مرة أضرموا النيران في المنازل، وحاولوا الإعتداء على شرف النساء وضرب المسنين، مضيفة أن هناك نوعا من الحركى( المتعاونين مع الفرنسيين ) يخدم معهم ويعاون الجزائريين، وفيهم من باع دينه ووطنه لفرنسا، ويقومون بممارسات أكثر دناءة من تصرفات الفرنسيين أنفسهم، ولكم تتصوروون حجم مسؤولية المرأة الريفية في خدمة الثورة، وإعداد الطعام للمجاهدين وغسل الثياب وتربية الأبناء ومنعهم من أيادي المستعمر الهمجي والدفاع عن نفسها وصون عرضها.
الشاقور* يتغلب على الرصاص ولبؤة الأوراس تفتك بالوحش الفرنسي
وفي* أجواء مؤثرة تواصل المجاهدة الفذة بوذن أم السعد وصف ملحمة العراك المباشر مع الضابط الفرنسي* قائلة* "أمسكت بيدي* على رشاشه وأوقعته أرضا بفضل الله،* وقام بعدة محاولات لإبعادي،* بما في* ذلك نهش أصابعي* عظا بأسنانه،* لكن ذلك لم* يثن من عزيمتي،* خاصة لما مددت* يدي* نحو الشاقور* (يستعمل لقطع الحطب وأغصان الشجر*) الموجود تحت مجموعة الحطب الموضوع في* زاوية فناء المنزل*"،* وانهالت عليه خالتي* أم السعد بوذن ضربا على رأسه لتخور قواه،* وجرّدته من سلاحه الذي* لم تحضرها البديهة في* إطلاق النار عليه،* ضربات الشاقور تنزل عليه،* وهي* متيقنة من موته،* ورغم ذلك راح* يركلها ويحاول النهوض،* لكن روحه فارقت البدن بعدما هشمت عظامه وتطاير مخه ودمه من وقع الهزيمة،* وبعد القضاء على الضابط الفرنسي* فكرت البطلة الأوراسية في* إلقائه في* مطمورة داخل المنزل،* ولكن الزوج بعدما وقف على الحقيقة أخبر زوج والدتها بما حدث،* فأحضر الحصان لنقل الجثة نحو مرتفعات جبل بوغيول الذي* أعدم فيه زوجها الشهيد،* وتمت تغطية جثة العسكري* الفرنسي* بأغصان أشجار الغابة،* وكتموا السر في* تلك الليلة وسط صمت الجميع،* بعدما توجت العملية بنجاح*.
*
عناية الله جنبت سكان قرية* "أقرادو*" إبادة جماعية
وفي* الصباح خرجت القوات الفرنسية في* عملية تمشيط بحثا عن الضابط،* تتقدمهم كلاب مدربة اتجهوا صوب منطقة* "أقرادو*"،* وفي* هذا السياق تقول خالتي* أم السعد* "خرجنا من المنزل وأنا واثقة أنهم سيكتشفون الأمر وسيعرفون السر،* ولكن عناية الله حوّلت كلبهم نحو قمة الجبل ليرعانا الله ويحفظنا،* لأنني* كنت خائفة على الدشرة بأكملها،* خاصة أنهم سيدفعون الثمن لو تم العثور عليه،* وبعدها أخبرنا قيادة الجيش التي* استلمت سلاح الضابط واتصلوا بالمكان لمعاينة الحقيقة*"،* وقد اندهش الكثير حينها من جرأة صاحبة العملية البطولية،* بدليل أنها سمحت بتجريد جثة الضابط الفرنسي* من اللباس،* وعثروا بعد تفتيشه على رتبته العسكرية ومجموعة خراطيش وكمية من النقود* (820* ف ف*)،* ثم قامت قيادة الجيش على مستوى المنطقة بدعوة السكان إلى ضرورة كتمان السر،* في* الوقت الذي* تم تحوّل خالتي* أم السعد إلى طبيب* يهودي* بمروانة معروف بـ* "سطورة*"،* من أجل العلاج بحجة سقوطها أثناء ركوبها الحصان*.
*
زيارة البقاع المقدسة*.. أكبر أمانيها
وبعيدا عن الحادثة التاريخية التي* جعلت بوذن أم السعد أول امرأة تفتك بضابط فرنسي،* فقد دعت محدثتنا إلى الاعتناء بذاكرة الثورة،* واستذكار مناقب كل من ضحى من أجل الجزائر،* وتبقى أكبر أمانيها هو زيارة البقاع المقدسة،* خاصة أنها بلغت من العمر* 86* سنة،* حيث تأمل في* تسهيل مهمة الحصول على جواز السفر الخاص بالحج من قبل الجهات الوصية مقابل تكفلها بتكاليف التنقل إلى البقاع المقدسة،* وكانت قد وجهت رسالة إلى والي* باتنة دعته إلى تسهيل مهمتها باعتبارها أرملة شهيد ومجاهدة،* من أجل تمكينها من جواز السفر الخاص بالحج،* خاصة أن ذلك* يندرج حسب قولها في* إطار ذوي* الحقوق،* وقد سبقت أن راسلت منظمة المجاهدين ومدير المجاهدين لكن دون جدوى،* في* الوقت الذي* أكد ابنها أنها تستحق التفاتة ملموسة في* هذا الجانب،* خصوصا وأنها طلبت تسهيل مهمتها إداريا من خلال الحصول على جواز السفر الخاص بالحج،* ولم تطلب امتيازات مادية أو شخصية،* وهو الطلب الذي* يبدو منطقيا حسب قوله من طرف أول امرأة افتكت بضابط فرنسي*.
*
هذا ما قالته لأحلام مستغانمي* خلال زيارتها إلى مروانة
كانت المجاهدة الفذة بوذن أم السعد من أبرز الحضور الذين قاموا باستقبال الكاتبة المعروفة أحلام مستغانمي* خلال زيارتها لمدينة مروانة منذ سنتين* (نوفمبر* 2013*)،* وهذا بمناسبة إصدار روايتها الجديدة* "الأسود* يليق بك*" التي* تدور أحداثها حول مدينة مروانة،* وأكدت المجاهدة بوذن في* هذا الخصوص أنها قالت لصاحبة رواية الجسد أن نساء ورجال الجزائر صنعوا التاريخ فوق الميدان من أجل نيل الاستقلال ومنح دروس في* النضال والصمود للاستعمار الفرنسي،* وعلى المثقفين والكتاب أن* يحرصوا على كتابة وتدوين هذا التاريخ،* حتى* يعطوا صورة إيجابية عن بلد المليون ونصف المليون شهيد،* علما أن المجاهدة "بوذن أم السعد" أوكلت لها مهمة تكريم "أحلام مستغانمي" ومرافقتها في عدة أماكن أثرية وتاريخية خلال زيارتها لمدينة مروانة بباتنة"