مذكرات صديق
بقلم يوسف ق. سلامة
كان سامِر رجلاً رياضيَّاً، يُساعِد والده المُسِنّ ويُلازمهُ في كُلّ شيء فهو له كالظّل. ناهيكَ عن عمل والدته المُسِنَّة التي لا تُبارِح رجُلُها خادمة إيَّاه في كل ما يحتاج إليه فالحُب بينهما مُتَبادَلاً قولاً وفِعلاً . وبالإجمال، كانت عائلة مُتَدَيّنة ومُنفَتِحة على كُلّ خير وَوِفاقٍ فهي عائلة مِثالية قل أن يشهد التاريخ لها مَثيلاً.
كانت روح الفَكاهة تَسُودُ نَفْس ابنهما الوحيد سامِر، إذ لا يتوانى عن إخبار النّكات لأهله وأصدقائه متى سَمَح الأمر.
وحَدَث في أحد الأيَّام أن تَعَرَّف إلى صديق قَروي يكبرهُ بعِدَّة أعوام، فما بَرَحَ ذلك الصَّديق يحُثُّهُ على تَعَلّم صيد الطيور والحيوانات. كان اسم هذا الصَّديق "حاذِق".
ودأب حاذِق على تدريبه بوضع حجر أو ورق مُقوّى على بعد أمتار كهدف لتصويب البندقيَّة.
وكان على حاذِق الإقتِراب من سامِر لمساعدته على إصابة الهدف. إلا أن سامِر الذي كان نُفوره من هذه الرياضة واضِحاً، كان يُخطِئ إصابة الهدف مِراراً.
وقد وصل الأمر إلى ذُروته (ذِروته )عندما أطلق سامر رصاصتين باتّجاه شجرة فإذا بأول رصاصة تُصيب حافِر حِصان والأخرى تصيب قبَّعة راكبه فإذا بالراكِب يسقط دون أن يتأذى ويتوجَّه نحو سامِر.
كان غبار البارود قد خرج من البندقيَّة طالياً وجه حاذِق الذي ركض في الاتجاه الخاطئ إذ ظن أنه سيلاقي راكب الحِصان الذي هو رئيس بلديَّة تلك المدينة الكبيرة.
ما إن انقشعت الرؤيا أمام حاذِق حتى جعل يعدو خَلف سامِر لتأديبه بسبب إصابته رئيس البلديَّة. إلا أن قميص سامر كانت ( كان ) قد علق بأحد الأغصان فتمزق وسقط سِرواله، الأمر الذي جعل حاذق يُدْرِكهُ ويكيل له اللكمات، إلا أن سامِر الذي بدا كالمعتوه على أثر اللكمات لم يستسلِم بل تابع ركضه. راح حاذِق يصرخ أمسكوا بهذا المعتوه وكانوا يضحكون إذ راح يركض عارياً، رَبي كما خَلقتني، دون أن يستطيع أحد الإمساك به. وكان ( كانوا) يسمعونه يقول: "لعن الله ساعة تَعَرفي بكَ."
استسلم الجميع إذ فَشلوا بالإمساك بِسامر ذو الحركات البهلوانيَّة المُضحِكة، وذهبت كل توسَّلاتهم إليه بالوقوف سُدى.
وفي النّهاية وبقرب إحدى الأنهر( أحد الأنهار ) البعيدة رمى حاذِق ببندقّيته فأصابت رأس سامِر، فتظاهر هذا الأخير بالإغماء، فعاد حاذِق أدراجه بعدما ظن أنه نال منه.
وحدث أن نام سامِر بعد ذلك بِلحظات فرأى رؤية غريبة. رأي نفسه في الصّين ماثِلاً أمام ببغاء يتكلم اللغة الصينية، ورأى نفسه مُحاطاً بِصينيين لا يفهمون لغة الطائر، كما لو كانوا لا يفقهون اللغة الصّينيَّة!
وبعد عَناء مَرير تَمَكَّنَ أحد الرجال من حَل (شيفرة) لُغة الببغاء فإذا بكلمات الببغاء تقول: " إن العالَم أشبه شيء بِلِحْيَتي وصلْعَتي: غَزارة في الإنتاج وسوء في التَّوزيع".
قال سامِر: "غريب، أتيس هذا أم ببغاء لتكون له لِحية " .
وكيف لكلمات الأديب العالمي الكبير جورج برنارد شو أن تتناهى إلى مسمعهِ.
ثم طَفَقَ الببغاء يتابع حديثه.
وبعد أن سأل سامِر عن المعنى أجابه أحد الرجال: " إن الببغاء يقول: "ستجدني على الشَّجرة". فاحْتار الجَمْع.
ما هي إلَّا ثوان حتى استيقَظَ سامِر. كان الوقت فجراً، لكن ضَرْبة البندقية كانت تؤلمه والدُّوار يلازمه، وقد أصيب بِفقدان ذاكِرة(الذاكرة) مُؤقَّتا. وفجأة لاحَ شبح شخص واقِف على شَجَرَة تَبْعُد عنه عشرة أمتار. ثم جعل ذلك الشَّبَح يقول: "لقد سامَحْتُكَ يا صديقي فلن أتْرُكك". وكان الوادي يُرَدّد صداه.
قال سامِر في نَفْسِهِ: "لا بُد أن يكون هذا المخلوق هو الببغاء نفسه. إنَّهُ جِنّيّ سَأُفاجِئ حاذِق به وبِحُلْمي وبالحكمة علَّهُ يَرْضى عَنّي". فأمسكَ ببندقيَّته مُطْلِقاً النَّار، وإذا بِرَجُلٍ يَسْقُط من على الشَّجَرة مُرْتَدياً ثياب رجل دين!
هرول سامر نحوه ضارِعاً إلى الله أن يخَفّف عنه تلك المحنة ومِحْنة تَعرّفه إلى حاذِق الجالِب للنَّحْس.
لكن سامِر استراح عندما أدرك أنَّ غُصْن الشجرة ارْتَطَم بِرأس ذلك الرَّجُل، إلا أن ذلك الارتطام العنيف سبب له فُقدان الذاكرة مُؤقَّتا. وما كان ذلك الرَّجُل سوى حاذِق الذي كان يتنَسّك مُصَليَّاً على جذع شجرة الهُعْخُعْ.
وقد حدَث أثناء سقوطه أن شَق ثوبه من وسطه ليصبح عرياناً.
سامِر: " ما عرفت قَط بأنَّك رَجُل دين.
حاذِق: " ألَسْتَ أنت اللحام الذي يعْمَل في القريَة؟"
سامِر:" ماذا دهاك؟ أنا سامِر"
حاذِق: "بل أنت اللحام الذي وَفَد إلينا مؤخَّراً"
سامِر: "بل أنا صديقكَ المنكود".
ثُمَّ استطرَد سامِر قائلاً:" يا لَكَ من كافِر منذ ألفيّ عام عَذَبتم السيّد المسيح عليه السلام، لو كان الأمر مقتصِراً إلى هذا الحَد لَصَمَتْنا، لكن أتصْلبونه؟"
حاذِق: "لقد حدث هذا الأمر منذ ألفي عام".
سامِر: "أتُبَرّر نفسك أيضاً أيها اليهوديّ؟"
إن كان الأمر مقتَصِراً على الضرب لَسَكتنا، إن كان على الشَّتم والجَلد لَقَبِلْنا، ولكن (وهنا صَرَخَ سامِر) أتصْلِبوه؟ تصلبون نبيَّاً كفِردوس السماء؟ الثأر لا العار، الثأر لا العار
وللحال رَكَض حاذِق نحو القرية خوفاً من غضب سامِر و بندقية سامِر وهو يَصْرُخ أمسِكوا هذا المجنون.
جعل حاذِق يركض هارِباً كالمجنون كأنَّه ملاحَقٌ من كَلب. وتكرر المشهد لكن مع حاذِق الذي ناله ما نال سامر من سُخْرية؛ إذ كان يَرْكُض عارياً.
وفي النهاية وصَل حاذِق إلى طريق مسدود والناس خَلْفه تضحك.
وإذا بِحاذِق يرَدّد قائلاً: " جاءَت ساعة الانتقام".
سامِر (في غَضَب) ليُبَرر جريمته: "أما زلتَ تبيع الأفيون والحشيش سِرَّاً بِتَمويلكَ الماليّ؟"
أجابه رجل الدين:" ألم يكن والدي ووالدك يَعْمَلونَ سِرَّاً في بيعها، أتقتُل ابن حشَّاش كان والده ووالدك إخوة؟"
وانفَجَر الجميع بالضَّحِك حتى أن سامر رَدَعَ نفسه عن قَتْل رجل الدين.
وعاد الإثنان إلى وعيهما وهما يتساءلان عن الذي حَصَل!
أما الناس فهجروا مَعْبَد حاذِق فأُصيب بالفقر المُدْقِع فراح يلعن حظّه والنَّحس الذي لاحَقَهُ بَعْدَ تَعَرُّفِهِ إلى سامِر.
19-7-2015
5:14 بعد الظُّهر